كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قال البخاري أيضًا: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع». الحديث: فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، وقد قال البخاري رحمه الله: باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلًا وهي بعد خيبر. لأن أبا موسى جاء بعد خيبر إلخ. وإنما بينا هذا ليعلم به أنه لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على أنها غير مشروعة في الحضر، بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا؛ لأنها لم تشرع في الحضر، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله:
ثم إلى محارب وثعلبه ** ذات الرقاع ناهزوا المضاربه

ولم يكن حرب وغورث جرى ** بهاله الذي لدعثور جرى

مع النَّبي وعلى المعتمد ** جرت لواحد بلا تعدد

والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعًا لابن سيد الناس ومن وافقه، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد، وهي أن تصلى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه. ومن حديث حذيفة عند أبي داود، والنسائي، وهذه الكيفية هي التي صلاها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان: أيكم صلى صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال حذيفة: أنا. وصلى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم، قال كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
قال أبو داود: وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ومجاهد عن ابن عباس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن شقيق عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد الفقير وأبو موسى.
قال أبو داود: رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعًا عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين اه. منه بلفظه.
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه: قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئًا. ويكون للإمام ركعتان، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب وفعله حذيفة بطبرستان، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك، وروي عن ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طجائفة ولم يقضوا، وروى جابر بن عبد الله أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة.
قال أيضًا إسحاق: وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين:
الأول: أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعد ما أمنوا وزال الخوف، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن وهذا القول له وجه من النظر.
الوجه الثاني: أن قولهم في الحديث ولم يقضوا أي في علم من روى ذلك. لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر، ويدل له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف والله تعالى أعلم.
وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرآن، وصلاة بطن نخل، وصلاة عُسْفان، وصلاة ذات الرقاع، وصلاة ذي قرد. وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قَرَد بقوله:
فغزوة الغابة وهي ذو قَرَد ** خرج في إثر لقاحه وجد

وناشها سلمة بن الأكوع ** وهو يقول اليوم يوم الرضع

وفرض الهادي له سهمين ** لسبقه الخيل على الرجلين

واستنقذوا ابن حصن عشرا ** وقسم النَّبي فيهم جزرا

وقد جزم البخاري في صحيحه بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاث ليال، وأخرج نحو ذلك مسلم في صحيحه عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فرجعنا من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر، فما في الصحيح أثبت مما يذكره اهل السير مما يخالف ذلك، كقول ابن سعد: إنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية، وكقول ابن إسحاق: إنها كانت في شعبان من سنة ست بعد غزوة لحيان بأيام.
ومال ابن حجر في فتح الباري إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد، وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أخر غير ما ذكرنا.
قال ابن القصار المالكي: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع.
وقال ابن العربي المالكي: روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة.
قال مقيده- عفا الله عنه- الذي يظهر والله تعالى أعلم، أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدو.
تنبيهان:
الأول آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة. لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم. إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف. لأنه عذر ظاهر.
الثاني: لا تختص صلاة الخوف بالنَّبي صلى الله عليه وسلم بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} [النساء: 102] الآية. استدلال ساقط. وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية. واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك. لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره، وشذ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي وإبراهيم بن عليه فقالوا: إن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية. ورد عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كما رِأَيتموني أُصلِّي» وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم.
تنبيه:
فإن قيل: قد قررتم ترجيح أن آية {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] في صلاة الخوف لا صلاة السفر، وإذن فمفهوم الشرط في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر.
فالجواب: أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون، فمنع صلاة الخوف في الحضر، واستدل بعضهم أيضًا لمنعها فيه بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في سفر، وجمهور العلماء على أنها تصلى في الحضر أيضًا، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضًا. لجريه على الغالب كما تقدم، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينًا حكمها.
كما روي عن مجاهد قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة تامة بركوعها وسجودها، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت، وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلًا على حادثة واقعة، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ولا في قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] لأن كلًا منهما نزل على حادثة واقعة: فالأول: نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا، وهن يردن التحصن من ذلك.
والثاني: نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين، فنزل القرآن في كل منهما ناهيًا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها، وأشار إليه في المراقي بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة:
أو امتنان أو وفاق الواقع ** والجهل والتأكيد عند السامع

وأجابوا عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق: بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي، وبه تعلم عدم صحة قول من قال: إن غزوة ذات الرقاع التي صلى بها النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، كانت قبل الخندق، وأجابوا عن كونه لم يصلها إلا في السفر، بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي، وعلتها هي الخوف لا السفر، فمتى وجد الخوف وجد حكمها، كما هو ظاهر. نكتة: فإن قيل: لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها. لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث، فالجواب من وجهين.
الأول: هو ما تقدم من أن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر.
الثاني: هو ما حققه بعض الاصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلًا، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًا لا كليًا حتى ينافي فعلًا آخر، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره، فيجوز أن يقع الفعل واجبًا في وقت، وفي وقت آخر بخلافه، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في مراقي السعود بقوله:
ولم يكن تعارض الأفعال ** في كل حالة من الأحوال

وما ذكره المحلى من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب نشر البنود في شرح البيت المتقدم آنفًا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] معناه: ينالونكم بسوء فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية، كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- عن النَّبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم.